الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ فِي {أُولَئِكَ} إِلَى مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى شُمُولِهَا مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ إِجْمَالًا مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَزَبُورِ دَاوُدَ وَإِنْجِيلِ عِيسَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ الْفَهْمُ بِالْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ اللُّبُّ. قَالَ وَعَنَى بِذَلِكَ مُجَاهِدٌ- إِنْ شَاءَ اللهُ- مَا قُلْتُ؛ لِأَنَّ اللُّبَّ هُوَ الْعَقْلُ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللهَ آتَاهُمُ الْعَقْلَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ الْفَهْمُ بِهِ انْتَهَى. وَلَمْ يُرْوَ عَنِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الْحُكْمِ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَالْحُكْمُ يُطْلَقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُ قَطْعًا، وَهُوَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ فِقْهَ الْمَعْلُومِ وَفَهْمَ سِرِّهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ وَالْفَلْسَفَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَضَاءِ لِخَصْمٍ عَلَى خَصْمٍ بِأَنَّ هَذَا حَقُّهُ أَوْ لَيْسَ بِحَقِّهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَالْحُكْمُ بِالشَّيْءِ أَنْ تَقْضِيَ بِأَنَّهُ كَذَا سَوَاءٌ أَلْزَمْتَ ذَلِكَ غَيْرَكَ أَوْ لَمْ تُلْزِمْهُ وَقَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْحُكْمُ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ مَصْدَرُ حَكَمَ يَحْكُمُ كَـ (نَصَرَ) يَنْصُرُ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ سِيدَهْ أَنَّ الْحُكْمَ الْقَضَاءُ وَجَمْعُهُ أَحْكَامٌ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْعَدْلِ، وَعَنْ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهُ الْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ. وَقَوْلُ ابْنِ سِيدَهْ هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 4: 58 وَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ الْمَنْعُ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ حَكَمْتُ وَأَحْكَمْتُ وَحَكَّمْتُ- بِالتَّشْدِيدِ- بِمَعْنَى مَنَعْتُ وَرَدَدْتُ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْحَاكِمِ بَيْنَ النَّاسِ: حَاكِمٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الظَّالِمَ مِنَ الظُّلْمِ، وَذَكَرَ كَغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ حَكَمَةَ اللِّجَامِ- بِالتَّحْرِيكِ- وَهِيَ حَدِيدَةُ اللِّجَامِ الَّتِي تُوضَعُ فِي حَنَكِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا تَرُدُّهَا وَتَكْبَحُهَا.وَأَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْجَزْمِ وَفِقْهُ الْأُمُورِ- وَهُوَ حِكْمَتُهَا- فِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ أَيْضًا وَهُوَ مَنْعُ الِاحْتِمَالَاتِ وَالظُّنُونِ، فَمَنْ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ جَازِمٌ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا. وَمَا يُقَالُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ يُقَالُ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَفَنٍّ، وَكَذَا مَنْعُ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ آتَاهُ اللهُ الْحُكْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى- أَيِ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ وَالْفِقْهَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَشُئُونِ الْإِصْلَاحِ، وَفَهْمِ الْكِتَابِ الَّذِي تَعَبَّدَهُ بِهِ، سَوَاءٌ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ أَمْ أَنْزَلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بَعْضَهُمْ بِإِيتَائِهِ الْحُكْمَ صَبِيًّا لِيَحْيَى وَعِيسَى، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ مَلَكَةُ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْفَصْلِ فِي الْخُصُومَاتِ فَلَمْ يُؤْتَهُ إِلَّا بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} مَنْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ فِيهَا الْفَصْلُ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ وَيَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ- وَكَذَلِكَ النُّبُوَّةُ- وَتَكُونُ هَذِهِ الْعَطَايَا الثَّلَاثُ مَرْتَبَةً عَلَى حَسَبِ دَرَجَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ وَالْأَمْرَ الْوَاقِعَ أَنَّ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ أُوتِيَ الثَّلَاثَ كَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ كَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا النُّبُوَّةَ فَقَطْ. فَإِذَا جَعَلْنَا الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، كَانَتِ الْآيَةُ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ لِهَذِهِ الْعَطِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ الْقُرْآنِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} 38: 26 وَقَوْلُهُ فِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مَعًا: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 21: 79 وَقَوْلُهُ فِي يُوسُفَ: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} 12: 22 أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 26: 21 فَهُوَ أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّ تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ الَّتِي تَأَخَّرَ الْقِيَامُ بِهَا عَنْ جَعْلِهِ رَسُولًا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ. وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ لِلْحُكْمِ هُنَا بِالنُّبُوَّةِ ضَعِيفٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِذِكْرِ الرِّسَالَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} 26: 83 فَإِنَّهُ دَعَا هَذَا الدُّعَاءَ وَهُوَ رَسُولٌ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ طَلَبُ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْحُكُومَةِ وَالسُّلْطَةِ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ، عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَفِقْهِ الْقَلْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي يَحْيَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} 19: 12 وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ التَّوْرَاةِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينِ هَادُوا} 5: 44 وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مَرْتَبَةٌ عَلَى حَسَبِ خُصُوصِيَّتِهَا، فَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ أُوتِيَ الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ مِمَّنْ ذَكَرَ كَانَ نَبِيًّا وَمَا كَلُّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ حَاكِمًا وَلَا صَاحِبَ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَهَذِهِ مَرَاتِبُ الْفَضْلِ بَيْنَهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا اسْتَعْمَلْنَا الْحُكْمَ بِمَعْنَيَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ فِي الْمُشْتَرِكِ كَانَ عَلَى التَّوْزِيعِ فَإِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُوتِيَ الْحُكْمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَمَا أُوتِيَهُ إِلَّا بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَقَرَّرَ وَتَكَرَّرَ.وَأَمَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ هُمْ أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ وَمَنْ ذُكِرَ مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ فَالْحَاجَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَقْوَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ حَاكِمٍ، وَبَعْضَهُمْ كَانَ عَالِمًا حَاكِمًا غَيْرَ نَبِيٍّ، وَبَعْضَهُمْ عَالِمًا حَكِيمًا غَيْرَ حَاكِمٍ وَلَا نَبِيٍّ، وَيَكُونُ إِيتَاءُ الْكِتَابِ أَعَمَّ مِنْ إِيحَائِهِ، فَإِنَّ أُمَّةَ الرَّسُولِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ بِإِيحَائِهِ إِلَيْهِ يُقَالُ إِنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتِ الْكِتَابَ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ، بَلْ يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ الْكِتَابَ أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَمَا نَصَّ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ- فَالْإِنْزَالُ عَلَى الرُّسُلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِنْزَالُ عَلَى الْأُمَمِ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِمْ لِهِدَايَتِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} 45: 16 الْآيَةَ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَجْهَ الْعِبْرَةِ بِمَا ذَكَرَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} أَيْ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ- الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ- هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ خُصُّوا بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا قَبْلَ غَيْرِهِمْ، إِذْ أُوتِيَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ رَسُولٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِأَمْرِ رِعَايَتِهَا، وَوَفَّقْنَا لِلْإِيمَانِ بِهَا وَتَوَلِّي نَصْرَ الدَّاعِي إِلَيْهَا، قَوْمًا كِرَامًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ سَيُؤْمِنُ عِنْدَمَا يُدْعَى، أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. يَقُولُ: إِنْ يَكْفُرُوا بِالْقُرْآنِ- أَيِ الْجَامِعِ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ لِرَسُولِ اللهِ- {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَنْصَارِ انْتَهَى. وَرَوَى مَثَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُ مَنْ يَكْفُرُ بِهَا بِأَهْلِ مَكَّةَ كَفَّارِ قُرَيْشٍ، وَتَفْسِيرُ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا بِالْأَنْبِيَاءِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى هُنَا. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ تَفْسِيرُ الْمُوَكِّلِينَ بِهَا بِالْمَلَائِكَةُ. هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ، الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الدَّرِّ الْمَنْثُورِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقًا وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَقِيلَ: الْفُرْسُ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهَا، وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِهَا وَكَانُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي مُقَدِّمَةِ الْأَنْصَارِ، فِي كُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ جِهَادٍ، وَلَكِنَّ الْأَنْصَارَ مَقْصُودُونَ بِالذَّاتِ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ وَالْمَنْعَةَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا بِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} فَإِنَّ الْأَنْصَارَ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مُؤْمِنِينَ- أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَوْمِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا بِمَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ وَاللَّاحِقَ فِيهِمْ فَالْكَلَامُ فِي الْأَثْنَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ كَذَلِكَ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَضِيَّةً وَحُجَّةً، وَنَقَلَهُ الرَّازِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، وَاخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى وَكَّلَ بِهَا مَنْ ذَكَرَ فِي أَزْمِنَتِهِمْ وَلَعَلَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُرِيدُ بِتَوْكِيلِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِهَا مَا أَخَذَهُ اللهُ مِنَ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} 3: 81 الْآيَةَ. وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقَوْمِ بِالْمَلَائِكَةِ فَقَدِ اسْتَبْعَدَهُ الرَّازِيُّ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّ اسْمَ الْقَوْمِ قَلَّمَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ. وَنَقُولُ: إِنَّ السِّيَاقَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى قَوْمٍ كِرَامٍ مِنْ بَنِي آدَمَ بِدَلِيلِ التَّنْكِيرِ وَإِنْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْقَوْمِ عَلَى الْجِنِّ فِي التَّنْزِيلِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِهَا عَلَى الْكَافِرِينَ، وَالْهِدَايَةِ وَالْعِبْرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَوَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ، وَصْفٌ لِقَوْمٍ حَاضِرِينَ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بِالْقُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَوَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ بِذَلِكَ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ.
|